عشوائيات

عشوائیات
انتا أبو رامي اللبناني
آه...أي خدمة
انتا لبناني؟
لا أنا مصري حضرتك بس أنا عشت في بیروت. كتير يیجي أكتر من عشرين سنة ..
حضرتك لبنانیة؟
آه
واللھي؟
واللھي... زي ما بقلَّك كده
انتي لبنانیة؟
آه. لبنانیة
من وين؟
طیب أسبكوا بقى مع بعض تتكلموا عشان أنا لازم أروح
حمدي يمضي في طريقه تاركاُ لأبو رامي صاحب سوبرماركت لبنان كل مساحة الكلام . رجلٌ ستیني بشاربین ووجه دائري طفولي، صوتٌ ناعمٌ رخیم يعزز جانب الطفولة فیه. لیس فارعاً بطوله وله عینان تبرقان عند كل عبارة ينطق بھا.
- في طريق الجديدة... psychologie...أنا أصلاً دكتور في الجامعة العربیة علم نفس وفلسفة ... درَست ھناك ورجعت أرض اللوا... طلعت عالمعاش... وولادي ربیوا ببیروت .... بیروت حبیبتي...رامي ابني الكبیر طیار ...كتیر حلوة بیروت..."
أكلمه باللھجة المصرية فیجیبني بلھجةٍ لبنانیةٍ "يطعمّھا تارةً بكلمةٍ فرنسیةٍ من ھنا وعبارةٍ انكلیزيةٍ من ھناك خارجاً بذلك بالبرھان الساطع والدلیل الذي لا يقبل الدحض أنه أمضى ثلاثین عاماً في بیروت و"تشرّب" سلوكیات أھلھا. اذ قلّ عديد اللبنانیین الذين ينطقون بجملةٍ مفیدةٍ واحدة خالیة من كلمة فرنسیة من ھنا أو انكلیزية من ھناك.
ما علینا.
يحاول الآن أبو رامي القیام بشتى الطرق لإرضاء زبونته اللبنانیة... على الأرجح ھو كذلك مع سائر زبائنه اذ يبدو ذلك من طباعه...أتمنى ذلك على كل حال.
- نحنا أھلك في أرض اللوا ...عاوزه شي... بدِّك شي...اذا عزتي أي شي ھذا كرت المحل ومعو رقمي . معاكي رقم مصري؟
يشخط الرقم الموجود على "كرت المحل" ويكتب رقمین جديدين. أحدھما محمول والآخر أرضي. يعطیني "كرت المحل" الذي تعلوه أرزةً لبنانیة، أضع الكرت في حقیبتي بینما تُسقِط الزوجة المشتريات في الكیس الأسود وأبو رامي يكرّر ويصرّ.
- اتصلي بي... من رقمك عشان أحفظ رقمك عندي ... شو ما عزتي... نحنا أھلك اتصلي ھلق.
أدفع الحساب وقبل أن أخرج أسأل الزوجة أين يمكنني أن أجد خبز "فینو" فیسارع أبو رامي للإجابة ويھمّ بالخروج من وراء المنضدة ويقترب ناحیتي لیدلّني. تتلو الزوجة عبارةً ما مخاطبةً زوجھا... لم أفھمھا. لیس لإني لا أفھم اللھجة بل لإنھا ما ان بادرت الى النطق حتى أجابھا أبو رامي:
ثانیة بس ... حقول لھا فین الخبز بتاع الفینو وأرجع
يخرج أبو رامي مندفعاً بطاقةٍ غريبة تجعل مشیته ملتوية بعض الشيء ورأسٌ يمیل الى الإنحناء، ربما لأنه كان يخرح بي ولا يخرج معي أو يخرجني.
نحنا لازم نقعد... ونحكي. ضروري نقعد...ونحكي. ايه؟؟ ما بقدرش أحكي قدامھا للمدام بتعرفي... بس نحنا لازم نقعد... اتصلي بي عشان أسجل رقمك... اتصلي ھلق. ايه؟؟؟ شايفة الباص بتاع البیبسي...بتروحي عالشمال بعدين أول يمین ھناك في فرن فینو ... اتصلي عشان نقعد... ونحكي. ناطر تلفونك ايه؟
خبز "الفینو".
ھو رديف "الباغیت الفرنسیة" كما قیل لي. أتساءل لماذا أُطلق علیه اسم "الفینو" . عليّ أن أسأل في ذلك.كما يجب أن أسأل حمدي عن قصة "العروس الصیني".
أخبرني حمدي أمس أنه قرأ منذ شھرين إعلاناً في إحدى الصحف المصرية عن شركة تؤمن لك عروساً صینیة وتتیح لك الزواج بھا مع ضمانة كاملة مدى الحیاة أنھا سوف تكون زوجةً Full Option . مطیعة وتجید كافة الوظائف الزوجیة بامتیاز . خدمة كاملة.أما كلفة ھذه الخدمة التي تقدمھا الشركة فھي 1500 جنیه فقط لا غیر.حاولت أن أبحث عن الإعلان أو عن مقال يتحدث عنه في الإنترنت لكنني لم أجده. لربما لم أبحث بما فیه كفاية.
لست أدري... على كل حال... لم يكن خبز الفینو رديفاً لل"باغیت الفرنسیة" بل ھو رديف لل"الخبز الإفرنجي" – أو ھكذا ھو اسمه في بیروت- الذي يشبه الباغیت الفرنسیة الا أنه أصغر حجماً وملمسه أكثر طراوةً.
لم يتبقّى من شراء الحاجیات سوى الخضار: الكزبرة والبطاطا ...البندورة ..آي.. نسیت الألمنیوم... ولكن ما من مشكلة... سوف أجد متجراً قريباً من ھنا...
غالباً ما أنسى: مفتاحي أم جھازي الخلیوي... مھمة طارئة علي القیام بھا ... في إحدى الأيام كنت أنتظر سیارة أجرة في بیروت. كنت ھائمة في فكرة ما. نسیتھا الآن. الا أنني أذكر أنني كنت ھائمة في فكرة...ما. توقفت سیارة أمامي... ذُھلت. نسیت وِجھتي. حاولت التذكر." أ..أ..أ....أ...." والسائق ينتظر. ثوانٍ تمرّ ولا أذكر وجھتي والسائق ينظر إليّ. طلبت منه أن يمضي في طريقه. ما أن مضى حتى تذكرت. ھنا متجرٌ صغیر على مقربةٍ مني. يطالعني رجلٌ بذقنٍ طويلة وجلبابٍ أبیض. يتأسف. لا يملك ألمنیوم. اذاً، الى سوبرماركت لبنان مجدداً. تعودت على حكاية النسیان. لم تعد تزعجني . تآلفت معھا. حتى إنني بتُّ أمدح نسیاني أو ما تبقى من ذاكرتي. فكلاھما انتقائیین ولربما ھما – أي نسیاني وما تبقى من ذاكرتي- يذوبان في كیانٍ ثالثٍ ھجین. لا يشبه النسیان وھو أبعد ما يكون عن "ما تبقى من ذاكرة". أسأل الزوجة فیجیب أبو رامي. يحضر الألمنیوم. تضع الزوجة الألمنیوم في كیسٍ أسود. يسألني ان كنت " أؤرجل". أي أدخن النارجیلة. أجیب بالنفي. يصرّح انه و"المدام يؤرجلان" كل يوم إن أحببت زيارتھما. يرافقني الى الخارج ويؤكد على ضرورة اتصالي به.
شو ما عزتي نحنا أھلك في أرض اللوا. اتصلي فیي. لازم نقعد...ونحكي.
أرض اللواء كانت في ما مضى أرضاً للواءٍ مصري وكان ھناك قصرٌ واحد تحیطه أرضاً زراعیة. تبدو الیوم أرض اللوا مختلفة تماماً. حيٌ عشوائي.. شوارع ضیقة غیر معبّدة بالإسفلت...تكثر فیھا آلیات "التك التك"...لا أرصفة في أرض اللوا وان وُجِدت فھي ضیقة جداً أو إن لم تكن كذلك فھي غیر شاغرة لتسیر الناس علیھا اذ يشغلها تارةً جزءٌ جليٌ من بقالةٍ ما– غالباً ما تكون ثلاجة المشروبات وتارةً أخرى عربةُ "عیش" تتخطى الرصیف لتحتل قسماً غیر يسیرٍ من الشارع...أو بسطة أحذية نسائیة...وموبیلیا ذات رائحةٍ كريھة.
لیس ھناك من حیّزٍ للناس وحیّز آخر للأشیاء في أرض اللوا ولا توجد مساحات منفصلة عن بعضھا البعض.هي مساحةٌ واحدة فقط لا تكتمل فیھا الأبعاد الثلاث. تراءى لي للحظة من اللحظات أن أرض اللوا لیست سوى "حَلّة" مھولة الحجم تسقط فیھا العمارات والناس والسیارات والتك التك وعربات الباعة لتشكل جمیعها مساحة مسطّحة واحدة. ھي حلوى أم علي.
عندما تمشي في شارعٍ عشوائي ما، لا بد أن تحمي نفسك عبر استحضار شتى الأفكار العشوائیة الى ذھنك محتضناً شعورك الغريب ھذا ومتماھیاً بذلك مع عشوائیة المكان.
فكرة عشوائیة أولى.
قصر شامبلیون. ھو قصر ذات عمارةٍ ملفتة، شیده الملك فؤاد لزوجته. لم يعجبھا فحوّله الى مدرسة ملكیة.تحولت المدرسة الملكیة الى مدرسة حكومیة في عھد جمال عبد الناصر. تمّ التنازع على العقار بعد ذلك بین وزارتي الثقافة والتربیة وبقي هذا النزاع لسنوات. في التسعینات، ربحت الدعوى وزارة الثقافة. الھدف: تحويله الى مركز ثقافي. فجأةً ومن حیث لا أحد يدري، يظھر أن له مالكٌ جديد. رجلٌ أعمال اسكندراني يدعي ملكیته لقصر شامبلیون. الرجل يملك أوراقاً ثبوتیة تؤكد ذلك ويقول أن أنور السادات باعه القصر. لست أكیدة من صحة ما سمعت. لكني أصغیت يومھا وعیناي شاخصتان أمام القصر. ھو الآن عقارٌ مھجور.
فكرة عشوائیة ثانیة.
انه الیوم الثالث الذي أنسى فیه حبتَي الماغنیزيوم صباحاً وحبتَي الكولشیسین مساءً.
فكرة عشوائیة ثالثة.
يجب أن أردّد كل ھذه التفاصیل أكثر من مرة كي لا أنساھا. لربما وجب علي أن أدونھا.
فكرة عشوائیة رابعة.
"القاھرة أنظف وأجمل مدينة في العالم في عام 1925 " . ورد ذلك في صحیفة المصري الیوم.
فكرة عشوائیة خامسة.
اللھجات خبز وملح المدن.
فكرة عشوائیة سادسة
نكتة يجدر تذكرھا أو واقعة وقعھا أكثر إضحاكاً من وقع نكتة وأكثر مأساويةً.... مسلسلٌ رمضاني يُعرض كل لیلةٍ في لیبیا الساعة الثانیة عشر مساءً وھو مسلسلٌ جماھیري جداً. في احدى لیالي رمضان يُقطع الإرسال لیظھر الرئیس اللیبي معمّر القذافي على الشاشة الصغیرة ويتحدث بنبرته الخاصة وبلھجة لیبیة لا أجیدھا: " ايش بتعملوا ... لیش بعدكن سھرانین...انقبروا فوتوا ناموا"
فكرة عشوائیة سابعة.
نفسي آكل فطیر مشلتت.
فكرة عشوائیة ثامنة.
فرقة مسرحیة لبنانیة في مھرجانٍ مسرحي في عمان. يأتي منظمو المھرجان ويطلبون عدم ذكر العبارات النابیة في العرض إن وُجدت. تسأل إحدى الممثلات عن السبب فیجیبونھا "احتراماً لوجود صورة جلالة الملك". تجیب الممثلة بكل سذاجة " طیب ما نحنا فینا نشیلھا ومنرجع منحطھا لما يخلص العرض". لم تكن تدرك أن ھذه الجملة قد تكلفھا أياماً في السجن والبعض يقول أنھا قد تكلفھا حیاتھا. لا أودّ أن أصدق ذلك.
فكرة عشوائیة تاسعة.
أزمة غاز طبیعي في القاھرة. يظھر أن السلطات المصرية كانت قد باعت مخزونھا من الغاز الطبیعیي بربع جنبه لإسرائیل منذ سنوات. السلطات ذاتھا التي باعت مخزونھا منذ سنوات تدرس إمكانیة إعادة شراء الغاز من إسرائیل بأضعاف أضعاف سعر اللیتر الواحد.
فكرة عشوائیة عاشرة.
أكثر ما أحب في القاھرة ھي تلك المقاھي في وسط البلد حیث يجلس الشاعر الى جانب بائع الخضار الى جانب مدير المبیعات الى جانب أستاذ المدرسة الى جانب السائح الأجنبي. ولكن لماذا أجد نفسي دائماً في حالة تأكید حبي للقاھرة.
أخرج المفاتیح وأفتح باب الغرفة... أدخل.
أقطع حبل أفكاري العشوائیة، أرمیھا أرضاً ثم أستلقي على السرير. أغمض عیناي وأحاول تخیل مشھد المترو الذي أخبرتني عنه زينة. أحاول رسم تفاصیلٍ لم تبح بھا.
رجلٌ وامرأة محجبة. غارقان في حديثٍ إيروتیكي داخل المترو. حديثٌ إيروتیكي لأكثر من نصف ساعة وزينة واقفة. لیست زينة من النوع المتطفل من الناس ولكن صدف أنھا كانت كثیرة القرب من الثنائي نتیجة اكتظاظ المترو. حتى أنھا احتراماً لخصوصیتھما أدارت ظهرها لھما وقرّرت أن تمسح كل كلمة سمعتھا حتى الآن أو ستسمعھا الى حین وصولھا الى المحطة التالیة. ألا يسعھما الإنتظار حتى يصلان الى منزلھما؟
وصلوا الى المحطة التالیة.
يبطئ المترو وتیرة سیره تدريجیا الى أن يتوقف نھائیاً.
يتوقف الثنائي عن الكلام.
تفتح الأبواب الأوتوماتیكیة. يقف الرجل والمرأة سويةً دون أن يتكلما.
يخرج كل منھما من باب ثم يمضي كلٌ منھما في طريق. يمضیان دون أن يودعا بعضھما البعض.
زينة ما زالت متسمرة مكانھا.
يبدو أنھا أصیبت بالذھول.
أما أنا فأذكر أنني نسیت شراء علبة الفطر. أھرع مسرعةً الى الشارع. أرتطم بأبو رامي وأكمل طريقي.
لیش بعد ما اتصلتي فیي!!!

النهاية

Comments